بحـث
المواضيع الأخيرة
الجز الثالث من الكتاب
صفحة 1 من اصل 1
الجز الثالث من الكتاب
سقوط الدولة الطولونية في مصر
الانتصار في معركة .. والحصول على مكسب وقتي ... والوصول إلى السلطة.. هذه كلها ليست هي قضية التاريخ .. ولا معركة التقدم البشري .. بل هي عموما ليست من عوامل تحريك التاريخ إلى الأمام أو الخلف على نحو واضح وضخم.. إن الانتصار في معركة .. قد لا يعني الهزيمة الحقيقية للأعداء ، فحين لا تتوافر العوامل الحقيقية للنصر .. يصبح أي نصر مرحلي عملية تضليل ، واستمرارا للسير الخطأ ، وتماديا في طريق الوصول إلى الهزيمة الحقيقية .. هكذا سار التاريخ في مراحل كثيرة من تطوراته .. كان النصر بداية الهزيمة ، وكانت الهزيمة بداية للنصر !
وحين يصل إنسان ما إلى الحكم .. دون أن يكون معدا إعدادا حقيقيا للقيادة ، ودون أن يكون في مستوى أمته .. يكون وصوله على هذا النحو هو المسمار الأخير الذي يدق في نعش حياته وحياة الممثل لهم .. !
والتاريخ في دوراته غريب وهو يعلمنا أنه لا توجد قاعدة ثابتة للتحول ترتكز على أسس متينة ، اللهم إلا قاعدة التغيير من الداخل المرتكزة على عقيدة لها جذورها في أعماق النفس ، ولها انسجامها مع حركة الكون ولها صلاحياتها في البقاء والانتشار والخلود !
وعندما أعلن " أحمد بن طولون " مؤسس الدولة الطولونية في مصر انفصاله عن الدولة العباسية بعد سنة 254هـ ، كان ينقصه الوعي بحركة التاريخ والشروط الضرورية للتغيير ، وكان بإنشائه هذه الدولة ليس أكثر من " انقلابي " سيطر على الحكم في ظل أوضاع معينة مرت بها الدولة العباسية ، سمحت له ولأمثاله بإظهار مطامحهم في مزيد من السلطة والشهرة والرغبة الجامحة في السيطرة . لم يحاول هذا الرجل - ما دام قد وصل إلى مستوى الثقة لدى الجهاز العباسي الحاكم - أن يتقدم بإصلاحاته ، وأن يبحث عن السبل المؤدية لحماية الدولة الإسلامية الجامعة ، وإنما راح في إغراق في عبودية الذات يبحث عن استغلال الظروف لصالحه .
ومنذ استقر في مصر سنة 254هـ وهو يحاول جمع كل مقاليد السلطة في يده ، فيتخذ من الإجراءات ما يجعله الرجل الوحيد في مصر ، وليس الرجل التابع لدولة إسلامية كبرى تستطيع عزله وتولية غيره . وقد عزل - في سبيل ذلك - عامل الخراج الذي عينه العباسيون على مصر - وتمكن من التحكم في الشئون المالية إلى جانب الشئون الإدارية والعسكرية .
ودخل أحمد بن طولون في صراع مع الدولة العباسية الجامعة وانتصر على أخي الخليفة أبي أحمد " الموفق " واتخذ من الإجراءات الثورية ما يكفل له الوقوف على قدميه لصد أي هجوم عباسي .
لكنه في الحقيقة لم يكن في حاجة إلى هجوم .. فنشأته على النحو السابق تحمل في أحشائها النهاية الطبيعية العاجلة . ورأت الخلافة من الحكمة أن تستغله . بدل أن تدخل معه في صراع ، وكلفته بمهام جديدة ، منها حماية الثغور الشامية .. ومات أحمد بن طولون تاركا دولة تقف كلها على أقدامه وحده وليست لها أقدام أخرى .. من عناصر الحياة التاريخية والحضارية ولذا فإنها بموته وقعت على الأرض.. وعلى الرغم من كل ما أبداه " خمارويه " ابنه من اتباع لسياسة أبيه ، ومن تمسك بمعالم استقلال وقوة دولته المستقلة .. إلا أنه لم يعد أن يكون مرحلة عبرها التاريخ ليدخل بالدولة - فورا - في مرحلة الأفول والفناء .
فبعد خمارويه انغمس الأمراء الطولونيون في لهوهم ، وتفشت ظاهرة حب السلطة والاستقلال لدى عمالهم في الأقاليم . وانقلب الثوريون على أنفسهم ، أو بالتعبير الدارج .. بدأت طلائع الثورة يأكل بعضها البعض . وقد ولي الأمر بعد خمارويه ثلاثة من آل طولون لم يزد حكمهم على عشر سنوات ، ولم تستفد البلاد المصرية أو الشامية منهم شيئا غير الفوضى والتنافس بين الطامعين في السلطة أو الفساد الذي نجم عن الترف ، وعن الاستبداد وغيبة الأمة عن الرقابة أو الحكم .. وفي هذه الحال .. لم يكن الأمر متعبا بالنسبة للدولة العباسية .. فتقدمت جيوشها لاسترداد مصر من خامس الولاة الطولونيين وهو " شيبان " الذي كانت الفوضى قد وصلت في عهده قمتها وأعلى معدلات خطورتها ، وشهدت سنة 292 هـ دخول هذه الجيوش إلى القطائع في القاهرة .. ومن فوق المنبر أعلن إزالة الدولة الطولونية التي لم تستطع أن تحكم أكثر من أربعين سنة عاشتها في صراع خارجي وعاشت معظمها في صراع داخلي ، مع شعب لم يهضم حركتها التي لم يكن لها المبرر الحضاري الهام لإحداث التغيير .
وعادت مصر إلى حظيرة الدولة العباسية .. وعلى امتداد تاريخنا سجلت صفحاته عشرات من الانقلابات وسجلت أسماء مئات الانقلابيين .. ولكنهم - جميعا وبلا استثناء - لم يقدموا ما يتوازى مع أحجام الخسائر التي كبدوها لأمتهم .. لأن الانقلاب ليس الوسيلة التاريخية المهيئة للتغيير ، إذ هو موجة انفعالية سرعان ما تنحسر محدثة رد فعل انحساري عنيف .. ودائما ... دائما أثبتت كل تقلبات تاريخنا كما أثبتت كل تطورات الحضارة " أن الانقلاب يدفع إلى انقلاب .. وأن حركة التاريخ لا تندفع بالعنف والانفعال " !!
الصفاريون وقصة سقوطهم
تاريخنا الإسلامي العظيم كتاب كامل من التكاملية التاريخية ، يضم بين صفحاته كل صور التقدم والتأخر .
وهو معلم عظيم .. اشتملت تجاربه على نوعيات من كل تجارب التاريخ البشري، وليس ذلك لأن القرآن العظيم قد حكى على نحو تركيبي كل صور التقلب والحركة والهبوط والارتقاء التي مر بها الموكب البشري ، والتي تغني التطور التاريخي الإسلامي وتكفل له الاندفاعة العاقلة .. ليس مرد الأمر إلى ذلك وحسب .. بل لأن كتاب التاريخ الإسلامي نفسه قد شاء الله له أن يكون من التكاملية والحبكة والتنوع بحيث يصلح كمرجع تال للقرآن والسنة يرجع المسلمون إليه ويتعلمون منه ، ويتلقون تلقي التلميذ من الأستاذ ..
إننا لا ندعو إلى رفض تأمل الموكب البشري المتحرك الذي يتحرك إلى جانبنا ومن حولنا .. أبدا .. فكل ما هنالك أننا لا بد أن ندرس أنفسنا قبل أن ندرس الآخرين .
والعجيب في أمر الدولة العباسية التي عاشت أكثر من خمسة قرون .. أستاذا وقائدا زمنيا وروحيا - مع اختلاف في الدرجة - العجيب أن هذه الدولة قد اشتملت على باب كامل من أبواب تاريخنا تكاملت له البداية .. والعقدة .. والنهاية.
وكما تعرضت هذه الدولة لعلل الانفصال عنها بوضوح منذ منتصف القرن الثالث الهجري ببروز الدولة الطولونية في مصر ، فإنها كانت تتعرض على امتداد النصف الثاني من القرن الثالث المذكور لهذه العلل على امتداد أرضها كلها .. كانت حركات الانفصال التي كانت لا تزال تخطب في المغرب باسم الخليفة العباسي " حركات الأغالبة والرساميين والأدارسة " بدلا من هذا أصبح الفاطميون حركة عصيان وتمرد علني .. بل وخروج على الأيديولوجية العباسية .
ومن الغريب أن حركة خروج أخرى تحمل نفس العداء السياسي والعسكري للخليفة العباسي ، وإن كانت لم تخرج أيديولوجيا ، كانت قد برزت في خراسان وتمخضت عن صراع عسكري اتبعه انفصال عن الدولة في سنة 254هـ وهي السنة نفسها التي برزت فيها الدولة الطولونية وسميت حركة الانفصال في خراسان هذه باسم " الدولة الصفارية " !!
وكان لخراسان - كما هو معروف - وضع خاص في الدولة إذ كان هؤلاء الخراسانيون يشعرون بأنهم أصحاب فضل على الدولة العباسية ، وبأن سيدهم " أبا مسلم الخراساني " هو المؤسس الأكبر في رأيهم للدولة العباسية ، لكنهم - وهذا رأيهم كذلك - جوزوا جزاء " سنمار " حين قتل أبو جعفر المنصور الثاني ثاني الخلفاء العباسيين أبا مسلم هذا .
وقد تجاوزت الخلافة العباسية عن خراسان بعض الشيء بدافع من الوفاء والمجاملة ، وتركت " لطاهر بن الحسين " الذي قدم للدولة خدمات جليلة فرصة التحكم في خرسان .. له ولأبنائه من بعده في إطار الخلافة الجامعة والسمع والطاعة لدولة الخلافة عاصمة وخليفة .. حربا وسلما .
لكن منتصف القرن الثالث شهد بروز جماعة من المجاهدين الحريصين على بقاء هيبة الخلافة . تمكن " يعقوب بن الليث الصفري " من الاتصال بها .. والسيطرة عليها .. وتحويلها إلى جماعة خادمة له .. نجح بها في تأسيس " الدولة الصفارية".
وقد استطاع يعقوب أن يجتذب إلى تأييده عددا من المتطوعين الجدد ، فعظم جيشه، واستطاع أن يحدث القلق لدى دولة الخلافة ، وبالقلق وإظهار تعاونه مع الدولة ، وحروبه تظاهرا لمصلحتها ، ثم باصطدامه بها .. اصطداما فاشلا كاد
يلقى حتفه فيه .. بكل هذا سكتت الخلافة عن هذه الحركات التي ولدت لتموت ، ولم يلبث يعقوب أن مات متأثرا بجراحه سنة 256هـ في سابور .
وخلفه أخوه عمرو بن الليث .. وأقرت الخلافة ولايته على خراسان ولواحقها كالسند وسجستان وكرمان وفارس وأصبهان .. فأظهر عمرو الطاعة الكاملة للخلافة ، لكنه - أمام كرم الخلافة - قد زاد في أطماعه ، ودخل في معارك مع السامانيين في بلاد ما وراء النهر ، واستطاع السامانيون بقيادة إسماعيل بن نصر الساماني أسره في إحدى المعارك ، وسيروه مكبلا إلى الخليفة العباسي المعتضد ..وأحضر إلى مجلس الخليفة المعتضد محمولا على جمل ذي سنامين ، وسجن حتى مات في سجنه سنة 287هـ .
واضطرب أمر الصفاريين لمدة ثلاثة أعوام بعد ذلك ، وسقطوا كما تسقط كل حركة انفعالية ترتكز على طموح شخصي ، وتفتقد الوعي بحركة التاريخ وبأيديولوجية قتالية واضحة تستأهل الموت في سبيلها .
ودائما يعلمنا التاريخ الإسلامي العظيم من تجربة الانقلاب ، الذي سماه المؤرخون غير المحددين بعمق لرصيد المصطلحات " الدولة الصفارية " ؛ يعلمنا التاريخ الإسلامي العظيم أن " الاندفاع غير الموضوعي وغير المتناسق مع روح التطور لا مصير له إلا الموت السريع " !!
الإخشيديون على خطى الطولونيين يسقطون !!
في قوانين الحضارة : أن المادة والروح لا تفنيان فناء مطلقا .. وأن بذور الخير والشر لا يمكن أن تموت موتا أبديا .. وأن الخير أو الشر يتحولان إلى مادة خام ... لميلاد جديد سواء كان هذا الميلاد انبعاثة خير أو انبثاقة شر .
وبوسع علماء الحضارة أن يقدموا نماذج عديدة تبين بوضوح أن " الخمر العتيقة " لا يمكن أن تذوب دون أن تدخل في صنع مآدب حضارية جديدة .. تماما كالجسم الميت الذي يدخل في أجسام أخرى حية يمنحها من طاقته الذاهبة طاقات جديدة مندفعة للحياة والإبداع ، وكما يأكل الإنسان لحوم الدواجن والحيوانات الأخرى الحلال والأسماك .. ثم يتحول هو يوما إلى طعام يسهم في إحياء حيوانات أخرى.. أو في منح الأرض بعض المواد الكيماوية والحضارات تمر بنفس الطريق الدائري الخالد .. فأثينا برقيها الفلسفي والأدبي .. تتحول إلى خميرة حضارة لروما . والحضارة الأوربية تقوم على خميرة الحضارة الإسلامية وبقايا الحضارات الرومانية .
وعندما زرع أحمد بن طولون منشئ الدولة الطولونية أولى بذور الحركات الانفصالية في مصر عن الخلافة العباسية الجامعة والأم ، بدأت بزرعه لهذه البذرة الخبيثة بذور الانفصام تدب في نفوس قوى كثيرة جياشة بالفوضى . زاخرة بالطموح الشخصي، ناقمة على قيادة العباسيين .. الجامعة . متأثرة بعوامل قومية من تلك العوامل التي تدمر روح الحضارة وتبشر بمستقبل ضائع ميت .. لقد كانت دولة ابن طولون مثالا لكثير من الدويلات التي شذت على الخلافة ، وشيدت أبنيتها المتداعية على أنقاض الخلافة ، ولم يعد لكثير منها علاقة بالخلافة أكثر من الاعتراف بسلطة الخليفة الاسمية .
وبعد السقوط المتوقع لهذه الدولة عادت مصر وسورية إلى حكم العباسيين ، بيد أن بذرة الانفصال - كما ذكرنا - كانت قد زرعت في نفوس قوى كثيرة ، جائشة بالفوضى فوارة بالنوازع القومية الوثنية .. فما كادت دولة ابن طولون تموت حتى حلت محلها بعد برهة زمنية قصيرة - في مصر - دولة الإخشيديين التي أسسها " محمد بن طغج " والتي عاشت آيلة للسقوط بين سنوات ( 323 - 358هـ ) ( 935 - 969م ) .
وكانت بداية الدولة نظيرة لنفس البداية التي انطلقت منها الدولة الطولونية ، فمحمد ابن طغج وكل إليه من قبل الخلافة العباسية أمر مصر لتنظيم أحوالها .. فنظم أحوالها لنفسه واستقل بالأمر ، واستولى على سورية وفلسطين وضم مكة والمدينة إلى دولته .
وبموت ابن طغج حكم بعده ابنان له صغيران لم يكن لهما من الحكم إلا اسمه .. وكانت مقاليد الأمور في الحقيقة منوطة بيد عبد خصي حبشي يدعى " كافور " " أبا المسك " - كان ابن طغج الذي لقب بالإخشيد - قد اشتراه من تاجر زيت بثمانية دنانير .
وقد استقل هذا العبد الحبشي بإدارة مصر .. ( وكانت له مع شاعر العصر أبي الطيب المتنبي قصص مشهورة) كما أن هذا العبد الخصي نافس دولة الحمدانيين التي ظهرت في شمال سورية .
وعبر خمسة حكام ضعاف باستثناء أولهم محمد بن طغج - مشت الدولة مسرعة في طريقها إلى الموت المحقق .. فلم يكن الحاكمان التاليان لمؤسسي الدولة إلا تابعين لكافور - كما ذكرنا - وبموت كافور وتولي ( أبي الفوارس أحمد ) سقطت الدولة سقوطا مروعا على يد جوهر الصقلي قائد المعز لدين الله الفاطمي سنة 358هـ .
ولم يقدر لهذه الدولة أن تخلف شيئا يذكر من المآثر العامة ، كما أن الحياة الأدبية والفنية لم تكن ذات بال فيها ، ولم يظهر كلمعة الشمس المتوهجة إلا ذلك الضيف الباحث عن فضلة من كأس الحكم .. يدعم بها غروره الشعري وتفوقه الجدير بالتقدير في ميدان الكلمة المسيطرة الآمرة !! وعندما ضن عليه كافور بفضلة الكأس هرب من مصر دون " تأشيرة خروج " ولقي حتفه جزاء له .. بعد أن ترك حقده على السلطة ممثلا في أشهر أبياته :
لا تشتر العبد إلا والعصا معه ** إن العبيد لأنجاس مناكيد
مريدا بذلك أشهر حكام الدولة الإخشيدية " كافور " .
ولو لم يصل جوهر إلى حدود مصر لسقطت الدولة الإخشيدية بفعل عامل آخر ، فعندما لا يكون هناك مبرر للوجود .. لا يكون ثمة مبرر للبقاء .. ولا تفعل القوى الخارجية التي تسيطر على الأمم والشعوب سوى أن تتقدم في فراغ دون أن تصطدم بجدران حضارية أو صخور قوية راسخة بالعقيدة " بمبرر الوجود ... ومؤهل البقاء " !
سقوط السامانيين في فارس
كما لا تلد الطفرات غير الطبيعية إلا طفرات مضادة اندفاعية - هكذا تحولت أرض خراسان - منذ أن ابتدع فيها سنة الانفصال عن العباسيين بنو طاهر ، ولئن كان بنو طاهر قد أفلتوا من العقاب المضاد ، لأنهم لم يكونوا حركة ثورية عنيفة ، وإنما كانت انفصالا هادئا في حدود السلطة الرسمية المشروعة ، سلطة الخلافة العباسية الأم .. لئن كان هذا قد تم لهم .. فإن الأمور قد استفحلت من بعدهم .. وأصبح الشذوذ هو القاعدة .. وانقلبت الأرض الخراسانية إلى أرض للثورات المذهبية والجنسية .. ولعل هذا كان من أكبر عوامل القضاء على الدور التاريخي الذي كان يمكن أن يلعبه الخراساني في صنع الحضارة الإسلامية الإنسانية .
فحيثما حل العنف واللامشروعية .. وانساقت الجماهير دون تعقل خلف رايات متعددة ، وخلف كلمات مبهمة .. فقدت بالتالي قدرتها على الرؤية .. وقدرتها على العطاء الحضاري . أصبحت لعبة في يد كل ناعق سواء كان ذا صوت طبيعي أو مصطنع .
وهكذا شرب الطاهريون الانفصاليون من نفس الكأس التي أذاقوها للعباسيين ، فقام الصفاريون عليهم . واستولوا على حكم خراسان سنة 261هـ بقيادة يعقوب ابن الليث الصفاري .
وكان بنو سامان الذين يرجع نسبهم إلى سامان أحد نبلاء " بلخ " قد نشأوا عمالا مسلمين لبني طاهر. ثم لم يلبثوا أن استأثروا بفارس وما وراء النهر من 874 هـ إلى سنة 999م وكان ذلك على أشلاء الانقلابيين الانفصاليين : الطاهريين والصفاريين .. وكان مؤسس دولتهم الأول هو نصر بن أحمد ، إلا أن موطد الدولة هو إسماعيل الذي قدر له أن يهزم يعقوب بن الليث الزعيم الصفاري وأن يصيبه بجروح قاتلة .
وفي عهد ملكهم نصر الثاني بن أحمد ( 913 - 943 ) وهو الرابع من ملوكهم ، وسعوا ملكهم إلى أعظم حدود وصلوا إليها ، فاستولوا على سجستان وكرمان وجرجان وما وراء النهر وخراسان وتمتعوا بسلطة مستقلة ، وإن كانوا لم يقطعوا الصلة الرسمية الإسلامية بالخليفة العباسي في بغداد .
وقد قدمت هذه الدولة بعض مظاهر التقدم العلمي والأدبي سواء من ناحية اللغة أو الأدب شعرا ونثرا .. وكانت النهضة الفارسية فيها أبرز من النهضة العربية من ناحية فكرها وطابعها العام باعتبارها دولة فارسية ، ففيها ظهر الرازي الشهير ، وقدم كتابه المنصوري في الطب إلى أحد ملوكها .. وكان ابن سينا أحد المترددين على مكتبات بخارى عامة الدولة ... ووضع الفردوسي أشعاره بالفارسية لأمرائها .
على أن أسلوب الطفرات غير الطبيعية التي لا بد لها أن تلد طفرات مضادة انفعالية ، لم يلبث أن ظهر كقانون حضاري لا بد له من أن يؤدي دوره مع الدولة السامانية ، كما أداه مع الطاهريين ومع الصفاريين ، ومع الطولونيين والإخشيد ، فلم تنج الدولة بالتالي من عناصر التهديم والفوضى التي قضت على ما سواها من الحركات الانقلابية في ذلك العصر .
وبالإضافة إلى المشاكل الخارجية التي كانت تسببها الخلافة للدولة كلما أتيح لها ذلك ، وفضلا عن سرعة توالي الأمراء على الحكم بتأثير الصراع الداخلي بين الأسرة الحاكمة ، وبتأثير مطامع الكبراء العسكريين الذي يظنون أنفسهم أولى بالحكم لأنه لا يوجد من يفوقهم في حكم البلاد ، فكلهم أصحاب حق في مغانم الانقلاب الانفصالي .
بالإضافة إلى هذا وذاك .. ظهر خطر جديد يهدد كيان السامانيين ويؤذن بأفول شمسهم .. ولقد بدا أنهم يكادون يشربون من نفس ما أذاقوه للخلافة .. تماما كما شرب غيرهم من الانفصاليين .
وقد ظهرت القبائل التركية البدوية .. وارتفع نجمها في الدولة ، وسيطرت على الشئون الداخلية للدولة ، وتحولت القوة تدريجيا من أيدي السامانيين إلى أيدي الأتراك الموالي .. وحتى قصورهم كان الأتراك يتمتعون بنفوذ كبير فيها .
وقد نجح الغزنويون الذين كانوا من الموالي الأتراك في انتزاع الجنوب ، كما وقعت المنطقة الشمالية من نهر جيحون في أيدي خانات تركستان " الايلاق " الذي قدر لهم أن يستولوا على عاصمة السامانيين " بخارى " ثم لم يلبثوا - بعد تسع سنوات - أن التهموا الدولة السامانية !!.
ولم تكن الدولة السامانية أكثر من حركة قومية غرقت في إحياء تراثها الخاص ، كما أنها لم تكن أكثر من حركة انقلابية قامت بأسلوب الطفرة غير الطبيعية وانتهت كذلك بأسلوب الطفرة غير الطبيعية سنة 308هـ بعد أن عاشت في ظل حماية ( ضعف الخلافة ) قرنا من الزمان !!
البويهيون الذين سطوا على الخلافة يسقطون !!
بينما كانت الدولة العباسية تستجمع قواها وتلتقط أنفاسها بعد تخلصها من حركات الانشقاق في خراسان ومصر أخريات القرن الثالث للهجرة ، بينما هذا .. كانت الدولة تنتقل بسرعة لتدخل في طور جديد ذي معالم جديدة لم تشهدها من قبل .. وبدخولها هذا الطور شهدت انفصالا ضخما بين رأسها وجسدها ظل هو السمة العامة المسيطرة عليها لحين زوالها رسميا من محاضر التاريخ سنة 656هـ .
إن الأمر لم يكن مجرد حركة انشقاق هذه المرة ، كما أنه لم يكن مجرد الاستئثار بحكم جزء من الدولة ، مع رفع راية الدولة ، كما أنه لم يكن ثورة انفعالية مذهبية أو سياسية .. لقد كان الأمر أعمق من ذلك بكثير ... لقد كان أسلوبا جديدا في التعامل مع الدولة العباسية الجامعة .. لقد كان احتواء لها أو بتعبير آخر سيطرة عليها وفرض نوع من الوصاية على خليفتها .. ولأول مرة في تاريخ الدولة الإسلامية نرى بعض الخلفاء - على نحو واضح وعنيف - لعبة في يد بعض المغامرين ، ونرى بعض الخلفاء يعزلون ويولون دون أن يكون لهم من الأمر شيء .. يفعل باسمهم كل شيء ويخطب لهم على كل منبر وتعلن باسمهم الحروب التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل .. وليس هذا وحسب .. بل لأول مرة تصبح الخلافة عبثا يهرب منه الخلفاء .. وينأى عنه المحترمون لأنفسهم لأن مصير الخليفة غالبا الجر من قدميه أو الجوع الشديد ..
وبدأ العالم الإسلامي يترنح منذ هذا الحدث الضخم الذي انفصل فيه رأس الأمة عن جسدها .
وقد حمل كبر هذا الأمر الخطير ، الأتراك من الجند الذين كانوا يمرون آخر القرن الثالث فترة تمزق داخلي ، وانقلاب ضد الخلفاء الذين أتوا بهم ، بادئ الأمر لحمايتهم منذ أن انتشرت هذه السنة السيئة .
فلما وصل ( أحمد بن بويه ) المؤسس الحقيقي للدولة البويهية ( 334 - 447 ) إلى بغداد، بعد أن كاتب الخليفة المستكفي ، ووافق الأخير على دخوله بغداد فدخلها في يسر ودون مشقة وفتحت له أبواب بغداد ، واستقبله الخليفة ( المستكفي ) ولقبه معز الدولة .. وفرح الناس به لينقذهم من الفوضى التي أحدثها الجند الأتراك في جهاز الدولة وبين الشعب .
لما تم هذا الدخول وتحولت به الدولة إلى حماية البويهيين الرسمية ، بعد أن كان خضوعها للأتراك مجرد نشاز أو انقلاب في داخل السلطة يعتقد الناس أنه طارئ لا بد أن يزول .
لما تم هذا كانت الخلفية التاريخية في ذهن البويهيين واضحة، وكان دخولهم بغداد بمثابة تقلد صريح لقيادة الخلافة .. وقيادة المسلمين .. وقد فهم الخلفاء أنفسهم هذا ... فلم يحاولوا منافسة البويهيين في السلطة التنفيذية أو السياسية .
بيد أن الأمر لم يقف عند هذه الحدود بالنسبة للبويهيين ، فلقد تمادوا في الأمر، وقد زعموا لأنفسهم نسبا ساسانيا فارسيا، وبما أنهم كانوا يعتنقون المذهب الشيعي الزيدي .. فقد حاولوا فرض المناخ الشيعي على الناس ، بل إن أحمد بن بويه المذكور حاول تغيير الخلافة العباسية إلى خلافة شيعية لولا نصيحة أصحابه له بأن يتجنب ذلك خشية العواقب .
ولم يعد للخليفة في ظلهم حتى حق تعيين كتابه ووزرائه ، وقد منع وارد الخليفة عنه ، ولم يعد يصله إلا مرتب شهري استبدل به مرتب سنوي .. ثم اقتطع منه بعد ذلك بحجج واهية ، وقد بلغ إذلال بعض الخلفاء مبلغه ==المستكفي عن الخلافة وعزل الخليفة الطائع وعزل غيرهما ، وقد عزل المطيع لله نفسه بعد أن رأى أنه لا قيمة له !!
وقد وقع البويهيون فيما وقع فيه الأتراك ، فقد أحدثوا الفوضى في البلاد وصادروا الأموال ، ودخلوا مع الناس في صراع عنيف من أجل الحصول على الأموال .
وخلال أكثر من قرن ظل البويهيون يسيطرون على خلافة العباسيين ، ولم يفعلوا فيها شيئا ذا بال سوى أن يضيفوا إلى صورة الجند الأتراك مزيدا من ملامح الطيش والرعونة .
وكما هي العادة في أمثال هذه الأسر المتسلطة .. أنها سريعة الانقسام على نفسها شديدة التنافس فيما بينها، وهكذا سقطت الأسرة البويهية إلى حضيض الانقسام والتناطح الداخلي.. وعانى المسلمون من وراء تناطحهم وتسلطهم الشيء الكثير .
إن سيطرة عنصر من العناصر المتعصبة قوميا أو المتأثرة بخلفية تاريخية لم تتخلص من شوائبها ... هو أبرز ما واجه ركب مسيرتنا الحضارية والتاريخية .
وبالقومية المتعصبة وبأصحاب النزعات المشبوهة وذوي الولاء لحضارات معاكسة لنا ولخطنا الحضاري ، بهؤلاء تمت عملية سقوطنا المتكرر في مراحل تاريخنا .
لكن تاريخنا .. الذي تتدخل فيه إرادة الله بحفظ هذا الدين كي يظل المعلم الثابت المضيء في ليل البشرية الطويل المظلم ...
هذا التاريخ يجد مع كل نكبة تاريخية ، أو فترة من فترات التداعي والهبوط ، من يعيد إلى الجسم حيويته ويمنع عنه السقوط القاتل .. وهكذا انبعث - من جديد - من بين الأتراك أنفسهم عنصر إسلامي مجاهد .. أعاد للخلافة شبابها ، ونجح قائد الأتراك السلاجقة " طغرلبك " سنة 447 هـ في أن يقضي على دولة البويهيين .
وبين عشية وضحاها سقط البويهيون الذين أثبت تاريخهم أنهم غير أهل لتحمل أمانات التاريخ .. وقد تعبت الأمة من جراء سياستهم أشد التعب .. لأن التاريخ يعلمنا دائما أنه " بانفصال رأس الأمة عن جسدها .. تتعطل طاقات الحياة فيها " .
الانتصار في معركة .. والحصول على مكسب وقتي ... والوصول إلى السلطة.. هذه كلها ليست هي قضية التاريخ .. ولا معركة التقدم البشري .. بل هي عموما ليست من عوامل تحريك التاريخ إلى الأمام أو الخلف على نحو واضح وضخم.. إن الانتصار في معركة .. قد لا يعني الهزيمة الحقيقية للأعداء ، فحين لا تتوافر العوامل الحقيقية للنصر .. يصبح أي نصر مرحلي عملية تضليل ، واستمرارا للسير الخطأ ، وتماديا في طريق الوصول إلى الهزيمة الحقيقية .. هكذا سار التاريخ في مراحل كثيرة من تطوراته .. كان النصر بداية الهزيمة ، وكانت الهزيمة بداية للنصر !
وحين يصل إنسان ما إلى الحكم .. دون أن يكون معدا إعدادا حقيقيا للقيادة ، ودون أن يكون في مستوى أمته .. يكون وصوله على هذا النحو هو المسمار الأخير الذي يدق في نعش حياته وحياة الممثل لهم .. !
والتاريخ في دوراته غريب وهو يعلمنا أنه لا توجد قاعدة ثابتة للتحول ترتكز على أسس متينة ، اللهم إلا قاعدة التغيير من الداخل المرتكزة على عقيدة لها جذورها في أعماق النفس ، ولها انسجامها مع حركة الكون ولها صلاحياتها في البقاء والانتشار والخلود !
وعندما أعلن " أحمد بن طولون " مؤسس الدولة الطولونية في مصر انفصاله عن الدولة العباسية بعد سنة 254هـ ، كان ينقصه الوعي بحركة التاريخ والشروط الضرورية للتغيير ، وكان بإنشائه هذه الدولة ليس أكثر من " انقلابي " سيطر على الحكم في ظل أوضاع معينة مرت بها الدولة العباسية ، سمحت له ولأمثاله بإظهار مطامحهم في مزيد من السلطة والشهرة والرغبة الجامحة في السيطرة . لم يحاول هذا الرجل - ما دام قد وصل إلى مستوى الثقة لدى الجهاز العباسي الحاكم - أن يتقدم بإصلاحاته ، وأن يبحث عن السبل المؤدية لحماية الدولة الإسلامية الجامعة ، وإنما راح في إغراق في عبودية الذات يبحث عن استغلال الظروف لصالحه .
ومنذ استقر في مصر سنة 254هـ وهو يحاول جمع كل مقاليد السلطة في يده ، فيتخذ من الإجراءات ما يجعله الرجل الوحيد في مصر ، وليس الرجل التابع لدولة إسلامية كبرى تستطيع عزله وتولية غيره . وقد عزل - في سبيل ذلك - عامل الخراج الذي عينه العباسيون على مصر - وتمكن من التحكم في الشئون المالية إلى جانب الشئون الإدارية والعسكرية .
ودخل أحمد بن طولون في صراع مع الدولة العباسية الجامعة وانتصر على أخي الخليفة أبي أحمد " الموفق " واتخذ من الإجراءات الثورية ما يكفل له الوقوف على قدميه لصد أي هجوم عباسي .
لكنه في الحقيقة لم يكن في حاجة إلى هجوم .. فنشأته على النحو السابق تحمل في أحشائها النهاية الطبيعية العاجلة . ورأت الخلافة من الحكمة أن تستغله . بدل أن تدخل معه في صراع ، وكلفته بمهام جديدة ، منها حماية الثغور الشامية .. ومات أحمد بن طولون تاركا دولة تقف كلها على أقدامه وحده وليست لها أقدام أخرى .. من عناصر الحياة التاريخية والحضارية ولذا فإنها بموته وقعت على الأرض.. وعلى الرغم من كل ما أبداه " خمارويه " ابنه من اتباع لسياسة أبيه ، ومن تمسك بمعالم استقلال وقوة دولته المستقلة .. إلا أنه لم يعد أن يكون مرحلة عبرها التاريخ ليدخل بالدولة - فورا - في مرحلة الأفول والفناء .
فبعد خمارويه انغمس الأمراء الطولونيون في لهوهم ، وتفشت ظاهرة حب السلطة والاستقلال لدى عمالهم في الأقاليم . وانقلب الثوريون على أنفسهم ، أو بالتعبير الدارج .. بدأت طلائع الثورة يأكل بعضها البعض . وقد ولي الأمر بعد خمارويه ثلاثة من آل طولون لم يزد حكمهم على عشر سنوات ، ولم تستفد البلاد المصرية أو الشامية منهم شيئا غير الفوضى والتنافس بين الطامعين في السلطة أو الفساد الذي نجم عن الترف ، وعن الاستبداد وغيبة الأمة عن الرقابة أو الحكم .. وفي هذه الحال .. لم يكن الأمر متعبا بالنسبة للدولة العباسية .. فتقدمت جيوشها لاسترداد مصر من خامس الولاة الطولونيين وهو " شيبان " الذي كانت الفوضى قد وصلت في عهده قمتها وأعلى معدلات خطورتها ، وشهدت سنة 292 هـ دخول هذه الجيوش إلى القطائع في القاهرة .. ومن فوق المنبر أعلن إزالة الدولة الطولونية التي لم تستطع أن تحكم أكثر من أربعين سنة عاشتها في صراع خارجي وعاشت معظمها في صراع داخلي ، مع شعب لم يهضم حركتها التي لم يكن لها المبرر الحضاري الهام لإحداث التغيير .
وعادت مصر إلى حظيرة الدولة العباسية .. وعلى امتداد تاريخنا سجلت صفحاته عشرات من الانقلابات وسجلت أسماء مئات الانقلابيين .. ولكنهم - جميعا وبلا استثناء - لم يقدموا ما يتوازى مع أحجام الخسائر التي كبدوها لأمتهم .. لأن الانقلاب ليس الوسيلة التاريخية المهيئة للتغيير ، إذ هو موجة انفعالية سرعان ما تنحسر محدثة رد فعل انحساري عنيف .. ودائما ... دائما أثبتت كل تقلبات تاريخنا كما أثبتت كل تطورات الحضارة " أن الانقلاب يدفع إلى انقلاب .. وأن حركة التاريخ لا تندفع بالعنف والانفعال " !!
الصفاريون وقصة سقوطهم
تاريخنا الإسلامي العظيم كتاب كامل من التكاملية التاريخية ، يضم بين صفحاته كل صور التقدم والتأخر .
وهو معلم عظيم .. اشتملت تجاربه على نوعيات من كل تجارب التاريخ البشري، وليس ذلك لأن القرآن العظيم قد حكى على نحو تركيبي كل صور التقلب والحركة والهبوط والارتقاء التي مر بها الموكب البشري ، والتي تغني التطور التاريخي الإسلامي وتكفل له الاندفاعة العاقلة .. ليس مرد الأمر إلى ذلك وحسب .. بل لأن كتاب التاريخ الإسلامي نفسه قد شاء الله له أن يكون من التكاملية والحبكة والتنوع بحيث يصلح كمرجع تال للقرآن والسنة يرجع المسلمون إليه ويتعلمون منه ، ويتلقون تلقي التلميذ من الأستاذ ..
إننا لا ندعو إلى رفض تأمل الموكب البشري المتحرك الذي يتحرك إلى جانبنا ومن حولنا .. أبدا .. فكل ما هنالك أننا لا بد أن ندرس أنفسنا قبل أن ندرس الآخرين .
والعجيب في أمر الدولة العباسية التي عاشت أكثر من خمسة قرون .. أستاذا وقائدا زمنيا وروحيا - مع اختلاف في الدرجة - العجيب أن هذه الدولة قد اشتملت على باب كامل من أبواب تاريخنا تكاملت له البداية .. والعقدة .. والنهاية.
وكما تعرضت هذه الدولة لعلل الانفصال عنها بوضوح منذ منتصف القرن الثالث الهجري ببروز الدولة الطولونية في مصر ، فإنها كانت تتعرض على امتداد النصف الثاني من القرن الثالث المذكور لهذه العلل على امتداد أرضها كلها .. كانت حركات الانفصال التي كانت لا تزال تخطب في المغرب باسم الخليفة العباسي " حركات الأغالبة والرساميين والأدارسة " بدلا من هذا أصبح الفاطميون حركة عصيان وتمرد علني .. بل وخروج على الأيديولوجية العباسية .
ومن الغريب أن حركة خروج أخرى تحمل نفس العداء السياسي والعسكري للخليفة العباسي ، وإن كانت لم تخرج أيديولوجيا ، كانت قد برزت في خراسان وتمخضت عن صراع عسكري اتبعه انفصال عن الدولة في سنة 254هـ وهي السنة نفسها التي برزت فيها الدولة الطولونية وسميت حركة الانفصال في خراسان هذه باسم " الدولة الصفارية " !!
وكان لخراسان - كما هو معروف - وضع خاص في الدولة إذ كان هؤلاء الخراسانيون يشعرون بأنهم أصحاب فضل على الدولة العباسية ، وبأن سيدهم " أبا مسلم الخراساني " هو المؤسس الأكبر في رأيهم للدولة العباسية ، لكنهم - وهذا رأيهم كذلك - جوزوا جزاء " سنمار " حين قتل أبو جعفر المنصور الثاني ثاني الخلفاء العباسيين أبا مسلم هذا .
وقد تجاوزت الخلافة العباسية عن خراسان بعض الشيء بدافع من الوفاء والمجاملة ، وتركت " لطاهر بن الحسين " الذي قدم للدولة خدمات جليلة فرصة التحكم في خرسان .. له ولأبنائه من بعده في إطار الخلافة الجامعة والسمع والطاعة لدولة الخلافة عاصمة وخليفة .. حربا وسلما .
لكن منتصف القرن الثالث شهد بروز جماعة من المجاهدين الحريصين على بقاء هيبة الخلافة . تمكن " يعقوب بن الليث الصفري " من الاتصال بها .. والسيطرة عليها .. وتحويلها إلى جماعة خادمة له .. نجح بها في تأسيس " الدولة الصفارية".
وقد استطاع يعقوب أن يجتذب إلى تأييده عددا من المتطوعين الجدد ، فعظم جيشه، واستطاع أن يحدث القلق لدى دولة الخلافة ، وبالقلق وإظهار تعاونه مع الدولة ، وحروبه تظاهرا لمصلحتها ، ثم باصطدامه بها .. اصطداما فاشلا كاد
يلقى حتفه فيه .. بكل هذا سكتت الخلافة عن هذه الحركات التي ولدت لتموت ، ولم يلبث يعقوب أن مات متأثرا بجراحه سنة 256هـ في سابور .
وخلفه أخوه عمرو بن الليث .. وأقرت الخلافة ولايته على خراسان ولواحقها كالسند وسجستان وكرمان وفارس وأصبهان .. فأظهر عمرو الطاعة الكاملة للخلافة ، لكنه - أمام كرم الخلافة - قد زاد في أطماعه ، ودخل في معارك مع السامانيين في بلاد ما وراء النهر ، واستطاع السامانيون بقيادة إسماعيل بن نصر الساماني أسره في إحدى المعارك ، وسيروه مكبلا إلى الخليفة العباسي المعتضد ..وأحضر إلى مجلس الخليفة المعتضد محمولا على جمل ذي سنامين ، وسجن حتى مات في سجنه سنة 287هـ .
واضطرب أمر الصفاريين لمدة ثلاثة أعوام بعد ذلك ، وسقطوا كما تسقط كل حركة انفعالية ترتكز على طموح شخصي ، وتفتقد الوعي بحركة التاريخ وبأيديولوجية قتالية واضحة تستأهل الموت في سبيلها .
ودائما يعلمنا التاريخ الإسلامي العظيم من تجربة الانقلاب ، الذي سماه المؤرخون غير المحددين بعمق لرصيد المصطلحات " الدولة الصفارية " ؛ يعلمنا التاريخ الإسلامي العظيم أن " الاندفاع غير الموضوعي وغير المتناسق مع روح التطور لا مصير له إلا الموت السريع " !!
الإخشيديون على خطى الطولونيين يسقطون !!
في قوانين الحضارة : أن المادة والروح لا تفنيان فناء مطلقا .. وأن بذور الخير والشر لا يمكن أن تموت موتا أبديا .. وأن الخير أو الشر يتحولان إلى مادة خام ... لميلاد جديد سواء كان هذا الميلاد انبعاثة خير أو انبثاقة شر .
وبوسع علماء الحضارة أن يقدموا نماذج عديدة تبين بوضوح أن " الخمر العتيقة " لا يمكن أن تذوب دون أن تدخل في صنع مآدب حضارية جديدة .. تماما كالجسم الميت الذي يدخل في أجسام أخرى حية يمنحها من طاقته الذاهبة طاقات جديدة مندفعة للحياة والإبداع ، وكما يأكل الإنسان لحوم الدواجن والحيوانات الأخرى الحلال والأسماك .. ثم يتحول هو يوما إلى طعام يسهم في إحياء حيوانات أخرى.. أو في منح الأرض بعض المواد الكيماوية والحضارات تمر بنفس الطريق الدائري الخالد .. فأثينا برقيها الفلسفي والأدبي .. تتحول إلى خميرة حضارة لروما . والحضارة الأوربية تقوم على خميرة الحضارة الإسلامية وبقايا الحضارات الرومانية .
وعندما زرع أحمد بن طولون منشئ الدولة الطولونية أولى بذور الحركات الانفصالية في مصر عن الخلافة العباسية الجامعة والأم ، بدأت بزرعه لهذه البذرة الخبيثة بذور الانفصام تدب في نفوس قوى كثيرة جياشة بالفوضى . زاخرة بالطموح الشخصي، ناقمة على قيادة العباسيين .. الجامعة . متأثرة بعوامل قومية من تلك العوامل التي تدمر روح الحضارة وتبشر بمستقبل ضائع ميت .. لقد كانت دولة ابن طولون مثالا لكثير من الدويلات التي شذت على الخلافة ، وشيدت أبنيتها المتداعية على أنقاض الخلافة ، ولم يعد لكثير منها علاقة بالخلافة أكثر من الاعتراف بسلطة الخليفة الاسمية .
وبعد السقوط المتوقع لهذه الدولة عادت مصر وسورية إلى حكم العباسيين ، بيد أن بذرة الانفصال - كما ذكرنا - كانت قد زرعت في نفوس قوى كثيرة ، جائشة بالفوضى فوارة بالنوازع القومية الوثنية .. فما كادت دولة ابن طولون تموت حتى حلت محلها بعد برهة زمنية قصيرة - في مصر - دولة الإخشيديين التي أسسها " محمد بن طغج " والتي عاشت آيلة للسقوط بين سنوات ( 323 - 358هـ ) ( 935 - 969م ) .
وكانت بداية الدولة نظيرة لنفس البداية التي انطلقت منها الدولة الطولونية ، فمحمد ابن طغج وكل إليه من قبل الخلافة العباسية أمر مصر لتنظيم أحوالها .. فنظم أحوالها لنفسه واستقل بالأمر ، واستولى على سورية وفلسطين وضم مكة والمدينة إلى دولته .
وبموت ابن طغج حكم بعده ابنان له صغيران لم يكن لهما من الحكم إلا اسمه .. وكانت مقاليد الأمور في الحقيقة منوطة بيد عبد خصي حبشي يدعى " كافور " " أبا المسك " - كان ابن طغج الذي لقب بالإخشيد - قد اشتراه من تاجر زيت بثمانية دنانير .
وقد استقل هذا العبد الحبشي بإدارة مصر .. ( وكانت له مع شاعر العصر أبي الطيب المتنبي قصص مشهورة) كما أن هذا العبد الخصي نافس دولة الحمدانيين التي ظهرت في شمال سورية .
وعبر خمسة حكام ضعاف باستثناء أولهم محمد بن طغج - مشت الدولة مسرعة في طريقها إلى الموت المحقق .. فلم يكن الحاكمان التاليان لمؤسسي الدولة إلا تابعين لكافور - كما ذكرنا - وبموت كافور وتولي ( أبي الفوارس أحمد ) سقطت الدولة سقوطا مروعا على يد جوهر الصقلي قائد المعز لدين الله الفاطمي سنة 358هـ .
ولم يقدر لهذه الدولة أن تخلف شيئا يذكر من المآثر العامة ، كما أن الحياة الأدبية والفنية لم تكن ذات بال فيها ، ولم يظهر كلمعة الشمس المتوهجة إلا ذلك الضيف الباحث عن فضلة من كأس الحكم .. يدعم بها غروره الشعري وتفوقه الجدير بالتقدير في ميدان الكلمة المسيطرة الآمرة !! وعندما ضن عليه كافور بفضلة الكأس هرب من مصر دون " تأشيرة خروج " ولقي حتفه جزاء له .. بعد أن ترك حقده على السلطة ممثلا في أشهر أبياته :
لا تشتر العبد إلا والعصا معه ** إن العبيد لأنجاس مناكيد
مريدا بذلك أشهر حكام الدولة الإخشيدية " كافور " .
ولو لم يصل جوهر إلى حدود مصر لسقطت الدولة الإخشيدية بفعل عامل آخر ، فعندما لا يكون هناك مبرر للوجود .. لا يكون ثمة مبرر للبقاء .. ولا تفعل القوى الخارجية التي تسيطر على الأمم والشعوب سوى أن تتقدم في فراغ دون أن تصطدم بجدران حضارية أو صخور قوية راسخة بالعقيدة " بمبرر الوجود ... ومؤهل البقاء " !
سقوط السامانيين في فارس
كما لا تلد الطفرات غير الطبيعية إلا طفرات مضادة اندفاعية - هكذا تحولت أرض خراسان - منذ أن ابتدع فيها سنة الانفصال عن العباسيين بنو طاهر ، ولئن كان بنو طاهر قد أفلتوا من العقاب المضاد ، لأنهم لم يكونوا حركة ثورية عنيفة ، وإنما كانت انفصالا هادئا في حدود السلطة الرسمية المشروعة ، سلطة الخلافة العباسية الأم .. لئن كان هذا قد تم لهم .. فإن الأمور قد استفحلت من بعدهم .. وأصبح الشذوذ هو القاعدة .. وانقلبت الأرض الخراسانية إلى أرض للثورات المذهبية والجنسية .. ولعل هذا كان من أكبر عوامل القضاء على الدور التاريخي الذي كان يمكن أن يلعبه الخراساني في صنع الحضارة الإسلامية الإنسانية .
فحيثما حل العنف واللامشروعية .. وانساقت الجماهير دون تعقل خلف رايات متعددة ، وخلف كلمات مبهمة .. فقدت بالتالي قدرتها على الرؤية .. وقدرتها على العطاء الحضاري . أصبحت لعبة في يد كل ناعق سواء كان ذا صوت طبيعي أو مصطنع .
وهكذا شرب الطاهريون الانفصاليون من نفس الكأس التي أذاقوها للعباسيين ، فقام الصفاريون عليهم . واستولوا على حكم خراسان سنة 261هـ بقيادة يعقوب ابن الليث الصفاري .
وكان بنو سامان الذين يرجع نسبهم إلى سامان أحد نبلاء " بلخ " قد نشأوا عمالا مسلمين لبني طاهر. ثم لم يلبثوا أن استأثروا بفارس وما وراء النهر من 874 هـ إلى سنة 999م وكان ذلك على أشلاء الانقلابيين الانفصاليين : الطاهريين والصفاريين .. وكان مؤسس دولتهم الأول هو نصر بن أحمد ، إلا أن موطد الدولة هو إسماعيل الذي قدر له أن يهزم يعقوب بن الليث الزعيم الصفاري وأن يصيبه بجروح قاتلة .
وفي عهد ملكهم نصر الثاني بن أحمد ( 913 - 943 ) وهو الرابع من ملوكهم ، وسعوا ملكهم إلى أعظم حدود وصلوا إليها ، فاستولوا على سجستان وكرمان وجرجان وما وراء النهر وخراسان وتمتعوا بسلطة مستقلة ، وإن كانوا لم يقطعوا الصلة الرسمية الإسلامية بالخليفة العباسي في بغداد .
وقد قدمت هذه الدولة بعض مظاهر التقدم العلمي والأدبي سواء من ناحية اللغة أو الأدب شعرا ونثرا .. وكانت النهضة الفارسية فيها أبرز من النهضة العربية من ناحية فكرها وطابعها العام باعتبارها دولة فارسية ، ففيها ظهر الرازي الشهير ، وقدم كتابه المنصوري في الطب إلى أحد ملوكها .. وكان ابن سينا أحد المترددين على مكتبات بخارى عامة الدولة ... ووضع الفردوسي أشعاره بالفارسية لأمرائها .
على أن أسلوب الطفرات غير الطبيعية التي لا بد لها أن تلد طفرات مضادة انفعالية ، لم يلبث أن ظهر كقانون حضاري لا بد له من أن يؤدي دوره مع الدولة السامانية ، كما أداه مع الطاهريين ومع الصفاريين ، ومع الطولونيين والإخشيد ، فلم تنج الدولة بالتالي من عناصر التهديم والفوضى التي قضت على ما سواها من الحركات الانقلابية في ذلك العصر .
وبالإضافة إلى المشاكل الخارجية التي كانت تسببها الخلافة للدولة كلما أتيح لها ذلك ، وفضلا عن سرعة توالي الأمراء على الحكم بتأثير الصراع الداخلي بين الأسرة الحاكمة ، وبتأثير مطامع الكبراء العسكريين الذي يظنون أنفسهم أولى بالحكم لأنه لا يوجد من يفوقهم في حكم البلاد ، فكلهم أصحاب حق في مغانم الانقلاب الانفصالي .
بالإضافة إلى هذا وذاك .. ظهر خطر جديد يهدد كيان السامانيين ويؤذن بأفول شمسهم .. ولقد بدا أنهم يكادون يشربون من نفس ما أذاقوه للخلافة .. تماما كما شرب غيرهم من الانفصاليين .
وقد ظهرت القبائل التركية البدوية .. وارتفع نجمها في الدولة ، وسيطرت على الشئون الداخلية للدولة ، وتحولت القوة تدريجيا من أيدي السامانيين إلى أيدي الأتراك الموالي .. وحتى قصورهم كان الأتراك يتمتعون بنفوذ كبير فيها .
وقد نجح الغزنويون الذين كانوا من الموالي الأتراك في انتزاع الجنوب ، كما وقعت المنطقة الشمالية من نهر جيحون في أيدي خانات تركستان " الايلاق " الذي قدر لهم أن يستولوا على عاصمة السامانيين " بخارى " ثم لم يلبثوا - بعد تسع سنوات - أن التهموا الدولة السامانية !!.
ولم تكن الدولة السامانية أكثر من حركة قومية غرقت في إحياء تراثها الخاص ، كما أنها لم تكن أكثر من حركة انقلابية قامت بأسلوب الطفرة غير الطبيعية وانتهت كذلك بأسلوب الطفرة غير الطبيعية سنة 308هـ بعد أن عاشت في ظل حماية ( ضعف الخلافة ) قرنا من الزمان !!
البويهيون الذين سطوا على الخلافة يسقطون !!
بينما كانت الدولة العباسية تستجمع قواها وتلتقط أنفاسها بعد تخلصها من حركات الانشقاق في خراسان ومصر أخريات القرن الثالث للهجرة ، بينما هذا .. كانت الدولة تنتقل بسرعة لتدخل في طور جديد ذي معالم جديدة لم تشهدها من قبل .. وبدخولها هذا الطور شهدت انفصالا ضخما بين رأسها وجسدها ظل هو السمة العامة المسيطرة عليها لحين زوالها رسميا من محاضر التاريخ سنة 656هـ .
إن الأمر لم يكن مجرد حركة انشقاق هذه المرة ، كما أنه لم يكن مجرد الاستئثار بحكم جزء من الدولة ، مع رفع راية الدولة ، كما أنه لم يكن ثورة انفعالية مذهبية أو سياسية .. لقد كان الأمر أعمق من ذلك بكثير ... لقد كان أسلوبا جديدا في التعامل مع الدولة العباسية الجامعة .. لقد كان احتواء لها أو بتعبير آخر سيطرة عليها وفرض نوع من الوصاية على خليفتها .. ولأول مرة في تاريخ الدولة الإسلامية نرى بعض الخلفاء - على نحو واضح وعنيف - لعبة في يد بعض المغامرين ، ونرى بعض الخلفاء يعزلون ويولون دون أن يكون لهم من الأمر شيء .. يفعل باسمهم كل شيء ويخطب لهم على كل منبر وتعلن باسمهم الحروب التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل .. وليس هذا وحسب .. بل لأول مرة تصبح الخلافة عبثا يهرب منه الخلفاء .. وينأى عنه المحترمون لأنفسهم لأن مصير الخليفة غالبا الجر من قدميه أو الجوع الشديد ..
وبدأ العالم الإسلامي يترنح منذ هذا الحدث الضخم الذي انفصل فيه رأس الأمة عن جسدها .
وقد حمل كبر هذا الأمر الخطير ، الأتراك من الجند الذين كانوا يمرون آخر القرن الثالث فترة تمزق داخلي ، وانقلاب ضد الخلفاء الذين أتوا بهم ، بادئ الأمر لحمايتهم منذ أن انتشرت هذه السنة السيئة .
فلما وصل ( أحمد بن بويه ) المؤسس الحقيقي للدولة البويهية ( 334 - 447 ) إلى بغداد، بعد أن كاتب الخليفة المستكفي ، ووافق الأخير على دخوله بغداد فدخلها في يسر ودون مشقة وفتحت له أبواب بغداد ، واستقبله الخليفة ( المستكفي ) ولقبه معز الدولة .. وفرح الناس به لينقذهم من الفوضى التي أحدثها الجند الأتراك في جهاز الدولة وبين الشعب .
لما تم هذا الدخول وتحولت به الدولة إلى حماية البويهيين الرسمية ، بعد أن كان خضوعها للأتراك مجرد نشاز أو انقلاب في داخل السلطة يعتقد الناس أنه طارئ لا بد أن يزول .
لما تم هذا كانت الخلفية التاريخية في ذهن البويهيين واضحة، وكان دخولهم بغداد بمثابة تقلد صريح لقيادة الخلافة .. وقيادة المسلمين .. وقد فهم الخلفاء أنفسهم هذا ... فلم يحاولوا منافسة البويهيين في السلطة التنفيذية أو السياسية .
بيد أن الأمر لم يقف عند هذه الحدود بالنسبة للبويهيين ، فلقد تمادوا في الأمر، وقد زعموا لأنفسهم نسبا ساسانيا فارسيا، وبما أنهم كانوا يعتنقون المذهب الشيعي الزيدي .. فقد حاولوا فرض المناخ الشيعي على الناس ، بل إن أحمد بن بويه المذكور حاول تغيير الخلافة العباسية إلى خلافة شيعية لولا نصيحة أصحابه له بأن يتجنب ذلك خشية العواقب .
ولم يعد للخليفة في ظلهم حتى حق تعيين كتابه ووزرائه ، وقد منع وارد الخليفة عنه ، ولم يعد يصله إلا مرتب شهري استبدل به مرتب سنوي .. ثم اقتطع منه بعد ذلك بحجج واهية ، وقد بلغ إذلال بعض الخلفاء مبلغه ==المستكفي عن الخلافة وعزل الخليفة الطائع وعزل غيرهما ، وقد عزل المطيع لله نفسه بعد أن رأى أنه لا قيمة له !!
وقد وقع البويهيون فيما وقع فيه الأتراك ، فقد أحدثوا الفوضى في البلاد وصادروا الأموال ، ودخلوا مع الناس في صراع عنيف من أجل الحصول على الأموال .
وخلال أكثر من قرن ظل البويهيون يسيطرون على خلافة العباسيين ، ولم يفعلوا فيها شيئا ذا بال سوى أن يضيفوا إلى صورة الجند الأتراك مزيدا من ملامح الطيش والرعونة .
وكما هي العادة في أمثال هذه الأسر المتسلطة .. أنها سريعة الانقسام على نفسها شديدة التنافس فيما بينها، وهكذا سقطت الأسرة البويهية إلى حضيض الانقسام والتناطح الداخلي.. وعانى المسلمون من وراء تناطحهم وتسلطهم الشيء الكثير .
إن سيطرة عنصر من العناصر المتعصبة قوميا أو المتأثرة بخلفية تاريخية لم تتخلص من شوائبها ... هو أبرز ما واجه ركب مسيرتنا الحضارية والتاريخية .
وبالقومية المتعصبة وبأصحاب النزعات المشبوهة وذوي الولاء لحضارات معاكسة لنا ولخطنا الحضاري ، بهؤلاء تمت عملية سقوطنا المتكرر في مراحل تاريخنا .
لكن تاريخنا .. الذي تتدخل فيه إرادة الله بحفظ هذا الدين كي يظل المعلم الثابت المضيء في ليل البشرية الطويل المظلم ...
هذا التاريخ يجد مع كل نكبة تاريخية ، أو فترة من فترات التداعي والهبوط ، من يعيد إلى الجسم حيويته ويمنع عنه السقوط القاتل .. وهكذا انبعث - من جديد - من بين الأتراك أنفسهم عنصر إسلامي مجاهد .. أعاد للخلافة شبابها ، ونجح قائد الأتراك السلاجقة " طغرلبك " سنة 447 هـ في أن يقضي على دولة البويهيين .
وبين عشية وضحاها سقط البويهيون الذين أثبت تاريخهم أنهم غير أهل لتحمل أمانات التاريخ .. وقد تعبت الأمة من جراء سياستهم أشد التعب .. لأن التاريخ يعلمنا دائما أنه " بانفصال رأس الأمة عن جسدها .. تتعطل طاقات الحياة فيها " .
روميو سحابة السماء- مشرف عام
- عدد المساهمات : 46
نقاط : 124
تاريخ التسجيل : 18/02/2012
مواضيع مماثلة
» الجز الرابع من الكتاب
» الجزء الخامس من الكتاب
» الجزء السادس من الكتاب
» سامسونج تزيح الستار عن الجيل الثالث من غالاكسي إس
» توتنهام يستعيد المركز الثالث وتشيلسي يهزم ويغان بصعوبة
» الجزء الخامس من الكتاب
» الجزء السادس من الكتاب
» سامسونج تزيح الستار عن الجيل الثالث من غالاكسي إس
» توتنهام يستعيد المركز الثالث وتشيلسي يهزم ويغان بصعوبة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
السبت مايو 17, 2014 10:52 am من طرف المدير العام
» جاياردو يكشف تفاصيل انتقال سواريز للريال
السبت مايو 10, 2014 11:20 pm من طرف المدير العام
» بدائل طبيعية للفياغرا
السبت مايو 10, 2014 11:14 pm من طرف المدير العام
» هيفا وهبي خطر على الأطفال في مصر!
السبت مايو 10, 2014 11:10 pm من طرف المدير العام
» سامسونغ تؤكد وجود خلل في كاميرا "غالاكسي إس 5"
السبت مايو 10, 2014 11:05 pm من طرف المدير العام
» 4 أمور لا تعرفها عن هاتفك الذكي
السبت مايو 10, 2014 11:02 pm من طرف المدير العام
» أحبها على "فيس بوك" وكذبت عليه.. فقتلها
السبت مايو 10, 2014 10:59 pm من طرف المدير العام
» بالفيديو..حفل زفاف فاخر لبقرة في الهند بحضور 5 آلاف شخص
السبت مايو 10, 2014 10:54 pm من طرف المدير العام
» بالصور..120 ألف نحلة تغطي صدر سيدة؟
السبت مايو 10, 2014 10:50 pm من طرف المدير العام
» منتخب العراق يحافظ على ترتيبه في التصنيف الدولي بالمركز الـ 100
السبت مايو 10, 2014 4:08 am من طرف المدير العام
» تعادل بطعم الهزيمة لريال مدريد يجعله خارج دائرة الصراع على لقب الليغا وينعش آال برشلونة
السبت مايو 10, 2014 4:03 am من طرف المدير العام
» ميسي: أنا مرتاح وكل ما نشر عني مجرد أكاذيب
السبت مايو 10, 2014 4:01 am من طرف المدير العام
» سامسونغ توقع أوباما في فخ الترويج لهاتف نوت 3
السبت مايو 10, 2014 3:51 am من طرف المدير العام
» مايكروسوفت تعلن رسمياً وفاة ويندوز إكس بي
السبت مايو 10, 2014 3:47 am من طرف المدير العام
» تتبَّع فيروس كورونا على خريطة العالم عبر موقع الكتروني
السبت مايو 10, 2014 3:36 am من طرف المدير العام
» تسريب صورة للنسخة المصغرة من هاتف HTC One M8
السبت مايو 10, 2014 3:31 am من طرف المدير العام
» 10 حقائق صادمة لا تعرفها عن "فيسبوك"
السبت مايو 10, 2014 3:29 am من طرف المدير العام
» طريقة تحميل مقاطع الفيديو من الفيس بوك بدون برامج وإضافات
السبت مايو 10, 2014 3:26 am من طرف المدير العام
» ميسي يشترط استمرار بنتو وشراء أغويرو مقابل التجديد لبرشلونة
السبت مايو 10, 2014 3:23 am من طرف المدير العام
» هل تريد ان تحافظ على نظرك اثناء جلوسك على الحاسوب
السبت مايو 10, 2014 3:10 am من طرف المدير العام